على مر العصور، لم تكن العروش تُبنى بالقوة
وحدها، ولم تصمد الممالك بالسيف دون عقل يوجّه الضربة في الوقت المناسب. فكم من
ملك قوي انهارت مملكته بسبب قرارات متسرعة، وكم من قائد شجاع خسر حكمه لافتقاده
الحكمة.
في مملكة مزدهرة، حكمها ملك عادل يُدعى أديلارد،
نشأ الأمير راؤول، فتى مقدام، يملك من الشجاعة ما يجعله فارسًا لا يُقهر، لكنه كان
يفتقد أهم ما يحتاجه الحاكم العظيم وهو الحكمة، لم يكن يفكر كثيرًا قبل أن يتخذ
قراراته، وكان يعتمد على قوته وسلطته أكثر من عقله وفطنته.
لكن الملك أديلارد، الذي رأى في ابنه خليفة للمملكة،
أدرك أن القوة بلا حكمة قد تكون سلاحًا يرتد على صاحبه، وأن الحكم الرشيد لا يُبنى
بالاندفاع، بل بالبصيرة، فقرر أن يضع أمام ابنه اختبارًا أخيرًا، اختبارًا سيغير
مصير المملكة، ويحدد إن كان راؤول أهلًا للعرش.
وهكذا تبدأ رحلة الأمير، حيث سيجد الكنز الذي
لا مثيل له، لكن ليس بالطريقة التي توقعها أبدًا.
قصة الأمير والفتاة الحكيمة
في قديم الزمان، في مملكة تُحكم بعدل وحكمة،
كان هناك أمير شاب يُدعى راؤول، كان يتمتع بوسامة لافتة، وشجاعة عظيمة، لكنه كان
متهورًا، لا يُحسن التفكير العميق، ويعتمد على قوته وسلطته في حلّ مشاكله. كان
والده، الملك أديلارد، رجلاً حكيماً، لكنه كان قلقًا على مستقبل المملكة لأن ابنه
لم يكن يُقدّر أهمية الحكمة والصبر.
وذات يوم، قرر الملك أن يُخضع ابنه لاختبار
أخير قبل أن يسمح له بتولي العرش من بعده. فأمره أن يذهب في رحلة إلى قرية بعيدة،
وأن يعود بكنز ليس له مثيل. لم يوضح له نوع الكنز، لكنه أخبره أن هذا هو شرطه الوحيد
ليكون ملكًا.
تحمس الأمير للتحدي، فامتطى جواده وانطلق مع
حرسه في رحلة طويلة. وبعد أيام من الترحال، وصل إلى قرية هادئة تُدعى
"إلدارا"، كانت تشتهر بسكانها الأذكياء وحكمتهم.
عندما دخل القرية، سمع الناس يتحدثون عن فتاة
شابة تُدعى ليانا، معروفة بذكائها الفائق وحكمتها الواسعة، حتى أن كبار الحكماء
يأتون لاستشارتها في أصعب القضايا.
فكر الأمير في نفسه: ربما هذه الفتاة هي الكنز
الذي أبحث عنه.
قرر أن يلتقي بها، فذهب إلى منزلها المتواضع،
وطرق الباب. فتحت له فتاة ذات ملامح رقيقة، وعينين عميقتين تشعان بالفطنة. نظر
إليها وقال:
أنا الأمير راؤول، جئت إلى قريتك بحثًا عن كنز لا مثيل له. يقول
الناس إنكِ حكيمة، فربما يمكنك مساعدتي في العثور عليه.
ابتسمت ليانا بلطف وأجابته: أي نوع من الكنوز
تبحث عنه، يا سمو الأمير؟ الذهب؟ الجواهر؟ أم شيئًا آخر؟
تردد الأمير قليلًا، ثم قال: لا أعلم بالضبط،
لكن والدي قال لي إنه كنز لا مثيل له.
أومأت ليانا برأسها، ثم دعته للجلوس في الحديقة
الصغيرة خلف منزلها. جلست أمامه وسألته: هل تعرف ما يجعل الملك حاكمًا عظيمًا؟
أجاب الأمير بثقة: القوة، والشجاعة، والقدرة
على هزيمة الأعداء.
ضحكت ليانا وقالت: هذه صفات جيدة، لكنها ليست
كافية. الحاكم العظيم هو من يمتلك الحكمة والصبر، ويعرف متى يستخدم القوة ومتى
يستخدم العقل.
شعر الأمير ببعض الإحباط، فقال لها: وهل
تعتقدين أن الحكمة وحدها تجعل الإنسان قويًا؟
ابتسمت ليانا، ثم التقطت ورقة صغيرة من الأرض،
وقالت: هذه الورقة خفيفة جدًا، أليس كذلك؟
أومأ الأمير برأسه. ثم وضعتها فوق كوب ماء،
فطفَت على سطحه. وقالت: لكن ماذا لو انثنت الورقة وأصبحت مشبعة بالماء؟ ستغرق،
أليس كذلك؟
هزّ الأمير رأسه موافقًا، لكنه لم يفهم المغزى.
قالت ليانا: القوة وحدها مثل هذه الورقة عندما
تتبلل بالماء، قد تجعلك تغرق في الأزمات. لكن إذا امتلكت الحكمة، ستظل طافيًا،
مهما واجهت من صعوبات.
أدرك الأمير أن ليانا كانت تحاول أن تُعلّمه
شيئًا مهمًا. قرر البقاء في القرية لبعض الوقت، ليختبر بنفسه قوة الحكمة التي
تتحدث عنها.
على مدار أسابيع، بدأ الأمير يتعلم من ليانا
ومن أهل القرية. تعلم كيف يستمع قبل أن يتكلم، كيف يفكر قبل أن يتصرف، وكيف يوازن
بين الشجاعة والحكمة. ذات يوم، بينما كان يسير في السوق، رأى رجلين يتشاجران بشدة
حول قطعة أرض. اقترب منهما، وبدلاً من أن يستخدم سلطته لفرض قرار، استمع إلى
كليهما، وفكر مليًا قبل أن يقترح حلاً يرضي الطرفين.
شعر بالرضا، فقد أدرك أن الحكمة أقوى من السيف
أحيانًا.
بعد أشهر، قرر الأمير العودة إلى قصره، لكنه لم
يعد كما كان. أصبح أكثر حكمة، وأكثر هدوءً، وعندما وصل إلى والده، قال له بثقة: لقد وجدت الكنز الذي لا مثيل له، يا والدي.
سأله الملك بدهشة: وأين هو؟
أشار الأمير إلى رأسه وقال: الحكمة، إنها أثمن
كنز يمكن أن يمتلكه أي حاكم.
ابتسم الملك بفخر، وعلم أن ابنه قد أصبح مستعدًا
لحكم المملكة. وبعد سنوات، حين تولى الأمير راؤول العرش، أصبح ملكًا عظيمًا، عُرف
بحكمته وعدله، وكان الناس يأتون من كل مكان ليستشيروه، تمامًا كما كانوا يفعلون مع
الفتاة الحكيمة التي علّمته أن القوة الحقيقية تكمن في الحكمة.
إقرأ أيضا: