في زمنٍ كانت فيه الحياة تسير ببطء، وكان الناس يعيشون على الفطرة والبساطة، نشأت قصص تروى عبر الأجيال، تحمل في طياتها دروساً لا تُنسى. هذه القصة ليست كغيرها، فهي تروي لقاءً بين جيلين يفصل بينهما الزمن، لكن يجمعهما شغف الحقيقة. "قصة الغلام والرجل العجوز" هي نافذة على عالم الحكمة والصبر، وفيها دعوة للتأمل في المعاني التي غالباً ما نهملها في زحمة الحياة.
قصة الغلام والرجل العجوز
الغلام الفضولي
كان سالم غلامًا في الخامسة عشرة من عمره، نشأ في قرية جبلية تُعرف باسم "عين الحكمة"، حيث يعيش الناس على الزراعة والرعي، ويتسامرون كل مساء حول نار الحطب وقصص الأجداد. رغم صغر سنه، كان سالم مختلفًا. كان فضوله يسبق عمره، يسأل عن كل شيء: لماذا تشرق الشمس؟ كيف يسقط المطر؟ لماذا يموت الناس؟ وكان كثيرًا ما يُقابل بالتجاهل من أهل قريته، الذين يعتبرون الأسئلة الكثيرة علامة على قلة الأدب.
ذات يوم، خرج كعادته يرعى الغنم في الوديان، وكان قلبه مثقلًا بالحيرة. كان يشعر أن الإجابات التي يبحث عنها لا توجد في قريته. وبينما كان يعبر ممراً جبليًا ضيقًا، لفت نظره رجل عجوز جالس بمفرده تحت شجرة زيتون معمرة.
الشيخ الغامض
اقترب سالم بحذر، وقال: "السلام عليكم يا عم." رد العجوز بصوت خافت لكنه ثابت: "وعليك السلام يا بني… تبدو مهمومًا."
قال سالم: "أبحث عن أجوبة لا أجدها… الكبار في قريتي لا يجيبون إلا بما سمعوه، وأنا أريد أن أفهم بنفسي."
ابتسم الشيخ وأشار له بالجلوس، وقال: "إذا كنت تبحث حقًا، فاعلم أن الأسئلة مهمة بقدر ما تكون مستعدًا لتحمّل تبعاتها. المعرفة ليست مجانية، ولا تأتي دون صبر."
كان ذلك اللقاء بداية لعلاقة غير متوقعة بين الغلام والرجل العجوز.
حديث الحجر الغريب
مدّ العجوز يده إلى كيس صغير بجانبه وأخرج حجرًا يبدو عاديًا، لا يلفت النظر. قال له: "هذا الحجر أحمله منذ عشرين عامًا، ولا زال يعلمني شيئًا جديدًا كل يوم."
ضحك سالم بسخرية خفيفة وقال: "حجر؟ يعلم؟ كيف؟"
رد الشيخ بهدوء: "الساخرون لا يتعلمون يا بني. خذ هذا الحجر، واحتفظ به ثلاثين يومًا. لا تكسره، لا تحاول فتحه، لا تسألني عنه. ثم عد إلي، وسأخبرك بكل ما تريد معرفته."
وافق سالم على مضض، وأخذ الحجر معه إلى بيته، دون أن يعرف أن حياته ستتغير تمامًا بعد هذا اللقاء.
ثلاثون يومًا من الصمت
كانت الأيام تمضي ببطء، وكل يوم كان سالم ينظر إلى الحجر ويتساءل في داخله: "هل هو حجر سحري؟ هل فيه كنز؟ أم أن الرجل العجوز يمتحنني فقط؟"
وفي أحد الأيام، حاول أحد أصدقائه أخذ الحجر منه، فسحب سالم الحجر بسرعة وقال: "هذا شيء أريده أنا… له معنى خاص بالنسبة لي."
بدأ سالم يلاحظ أمرًا غريبًا: مع كل يوم يمر، كان يشعر أن فضوله يقلّ، وأنه بدأ يستمتع بالصبر. صار أكثر هدوءًا، يتأمل في تصرفات الناس، ويستمع دون أن يقاطع.
اللقاء الثاني: كشف السر
بعد مرور الثلاثين يومًا، عاد سالم إلى نفس المكان، ووجد الشيخ جالسًا كأن شيئًا لم يتغير. سأله سالم: "ها قد عدت، وأحضرت الحجر كما طلبت."
ابتسم الشيخ وقال: "وماذا تعلمت؟" رد سالم: "تعلمت أن الفضول الجارف قد يضيع علينا جمال الانتظار، وأن الصبر يعلّم أكثر من الاستعجال." قال الشيخ: "أحسنت يا بني. الحجر لم يكن المعلم، بل كان الصمت الذي رافقه."
ثم أخبره أن الحكمة لا تُمنح، بل تُكتسب. وأن الإنسان إن لم يتعوّد على الصبر، فلن يستطيع التعلّم أبدًا.
دروس الحياة على لسان العجوز
بدأ الشيخ يروي لسالم قصصًا من حياته: كيف عمل خادمًا في بلاط أحد الأمراء، لكنه خسر كل شيء بسبب تسرّعه في الحكم على الناس. وكيف أمضى عامًا في الجبال يتأمل وحده، حتى بدأ يسمع صوته الداخلي.
قال: "يا سالم، الحكمة لا تأتي من قراءة الكتب فقط، بل من فَهْم الحياة. كل تجربة فيها درس، وكل فشل هو حجر في طريق النضج."
الغلام يصبح تلميذًا
أصبح سالم يزور الشيخ يوميًا. تعلّم منه كيف يزن الأمور، كيف يسأل دون أن يُحرج، وكيف يصمت حين يكون الصمت أبلغ من الكلام. بدأ يدون كل ما يسمعه، وصار مرجعًا للأطفال في قريته، رغم أن عمره لم يتجاوز السادسة عشرة.
ذات يوم، قال له الشيخ: "سيأتي وقت أرحل فيه، لكن ما أخبرتك به، سيبقى معك إذا احتفظت بقلبك نقيًا."
رحيل الحكيم
وفي صباح يوم بارد، جاء سالم كعادته، فلم يجد الشيخ. وجد فقط كيسًا صغيرًا فيه الحجر نفسه، ورسالة مكتوبة بخط مرتجف:
"يا سالم، لقد كنت الغلام الذي بحثت عنه طويلاً، فحافظ على ما تعلمت. ازرع الحكمة حيث ذبلت، وانشر الصبر بين من استعجلوا، وكن للناس كما كنت لي: قلباً منصتاً وروحًا متواضعة."
ذرف سالم دمعة حارة، لكنه شعر في لحظتها أنه أصبح رجلاً… لا بالعمر، بل بالفهم.
أثر لا يُمحى
تحوّلت قصة الغلام والرجل العجوز إلى حكاية تُروى في كل مجالس القرية. صار سالم يُلقّب بـ"سالم الحكيم"، وكان كل من يسأله عن سر حكمته، يخرج من عنده بحجر صغير ورسالة واحدة: "اصبر، فالصبر يسبق الفهم."
قصة الغلام والرجل العجوز تعلمنا أن الحكمة لا تُلقّن، بل تُكتسب بتجربة القلب والعقل، وأن الصبر مفتاحٌ لأبواب لا تُفتح بالعجلة. هي قصة لكل من يشعر بالضياع في زحمة الأسئلة، ولكل من يبحث عن معنى للحياة في التفاصيل الصغيرة.
:إقرأ أيضا