قصة عازفة البيانو الصغيرة، قصة عن الاجتهاد، قصة تربوية
للأطفال، قصص وعبر للأطفال قبل النوم، كما تجدون على موقعنا موقع ركني: ركن المعرفة، المزيد من القصص الرائعة عبر أقسام قصص المغامرات، قصص الأنبياء، قصص تربوية للأطفال، قصص قصيرة للأطفال، قصص إسلامية، قصص وعبر.
قصة عازفة البيانو الصغيرة، قصة ممتعة للأطفال.
ولدت روند في بيت عريق، وفضلا عن الثراء الذي ورثه أبوها
عن أجداده، كان بين أفراد أسرتها ملامح واضحة لمواهب فنية وموسيقية على وجه
التحديد في
مكتبة البيت، كثيرا ما جلست روند في حضن أبيها تشاركه الاصغاء إلى الألحان
الكلاسيكية تنبعث بدفء من أحد الأركان وهي لا تذكر متى تعرفت بروائع بيتهوفن وشوبان وموزارت
وسواهم، غير أن مطلع اللحن المتماوج بهدوء، أو العاصف بغضب، كان كافيا لمعرفة
مؤلفه، وهو ما تميزت به الطفلة بين رفيقاتها وأفراد أسرتها، لكن روند، كمعظم أبناء
الأسر المرموقة في المجتمع، كانت مدللة كسولة، يستهويها الاسترخاء والاستماع، بلذة
ما بعدها لذة.
كانت تقضي الساعة
تلو الساعة، على هذا النحو مما حمل أباها على التشاور في أمرها، والسعي لإخراج
موهبتها الى النور، بدل السكوت عن طمسها طي الظلمة، وفي الحفلة الكبرى التي أقيمت
لمناسبة بلوغ روند عامها العاشر، وصلتها هدايا كثيرة من الأهل والرفاق، وكانت
الموسيقى تصدح بجدل في قاعة الاستقبال ناشرة الفرح والانشراح بين المدعوين، وفي
غمرة انشغالها بواجبات الضيافة، سها عن بال روند، أن أبويها لم يقدما لها هديتهما،
عندما قبلاها، متمنيين لها السعادة والنجاح، وكانت مفاجأة للجميع، عندما دق الباب،
وبرز رجال أربعة يحملون شيئا ضخما، لم يلبثوا أن كشفوا عنه، فإذا هو بيانو جميل،
مع بطاقة كتب عليها: (الى الحبيبة روند، مع تمنيات الماما والبابا) وارتفعت من
الحضور أصوات عالية، وعاصفة من التصفيق، وفيما روند تقبل أبويها شاكرة، كان يتردد
من الحضور عبارات، أمثال: كم أنت محظوظة یا روند! إنها هدية ثمينة حتما ثمينة! وفعلا،
كان والد روند، بالاتفاق مع أمها، قد أوصى لها من محل لبيع الآلات الموسيقية على
أفضل بيانو، وعلى أفضل مدرس، يباشر في اليوم التالي، إعطاءها دروسا منتظمة في
العزف،
كان الأب على
يقين، بأن ابنته التي أظهرت، في طفولتها المبكرة، ميلا خارقاً إلى الموسيقى،
ستتعلم العزف على البيانو بسرعة، وتطرب أهل بيتها والجيران، ستلتحق بمعاهد الموسيقى،
وستدهش أساتذتها الكبار بموهبتها، ولم لا؟ ألم يكن عمها عازفاً مشهوراً على
الكمان؟ وجدها مؤلفاً وعازفاً على البيانو؟ وحتى خالها كان قائد الفرقة الموسيقية
في الجامعة؟
كل هذا، وروند ما تزال خارج اللعبة، لا ريب أنها فرحت
بهديتها فرحاً عظيماً وأحست بأهميتها أمام رفيقاتها، مما غذى كبرياءها
والثقة بنفسها، لكن يجب ألا ننسى أن نسق حياتها، حتى الآن، كان بعيدا عن العمل
الجدي المثابر، كتعلم العزف على البيانو وما يلزمه من جد ومثابرة وإرادة للجلوس
الطويل، وشوق للوصول الى الهدف المرتجى، وهي صفات افتقرت اليها روند، صحيح أن روند
استقبلت استاذ البيانو بترحاب، وأصغت جيدا إلى توجيهاته فيما يختص بجلستها على
المقعد، وبركزة أناملها على الملامس العاجية البيضاء والسوداء، وصحيح أن الأستاذ
أشاد بموهبتها، ولم تمض أسابيع، حتى صارت تقرأ «النوتات» بسهولة كما لو كانت تقرأ
لغة جديدة، لكن عزف روند الأولي، وهو عبارة عن تمارين بسيطة، كانت تنقصه أشياء
جوهرية، كانت تنقصه الروح، والحرارة، والنبض الضروري لكل أداء فني، الجميع أحسوا
بهذا، لكن أحدا لم يفتح فاه بالانتقاد، أو بإبداء الرأي، وحتى روند نفسها، لم
تفتها هذه الحقيقة، لقد كانت تعزف بأناملها وبدون إشراك حواسها، كأنما غايتها
إرضاء أبويها وحسب، عذرها في ذلك، أنها لم تكن هذه رغبتها هي، في تلك المرحلة من
طفولتها اللاهية اللعوب، حتى كان ذات ضحى أثناء العزف، وببساطة، نهضت عن مقعدها
بتوتر وغادرت المكان، لقد صبرت على نفسها عدة أسابيع، وهي بالتأكيد ليست راضية عن
النتيجة التي أحرزتها، وليست، بالتالي، مستعدة للاستمرار في التمثيل والادعاء أمام
أستاذها وأهلها بأنها تلك العازفة الناجحة !، وفي غرفتها، أقفلت روند الباب من
الداخل، واستلقت على سريرها وأغمضت عينيها، طلبا للراحة، وكانت العروق فوق صدغيها
تقرع بعنف، والصداع في رأسها لا يحتمل!
بعد لحظات، وهي
تقاوم ثورة الغضب من نفسها على نفسها، تناهي اليها من الحديقة تحت نافذتها، غناء
عصفور.
سألت نفسها: أهو بلبل، أم كنار، أم حسون؟ وراحت تتحرر مرة
يخيل إليها أنه بلبل، ثم تعدل عن الرأي مؤكدة أنه حسون، لكنها لا تلبث أن تقرر بل
إنه كنار! وظلت برهة من الزمن مع حوارها الذاتي، وهي مغمضة العينين، وقد ركزت كل
اهتمامها على الزقزقة المعبرة الحنون، التي دغدغت أعصابها المتشنجة، وخففت شيئا
فشيئا، آلام رأسها وصدغيها، يا لها من تجربة ! أن يتجرد تفكيرها، وينحصر في غناء
هذا العصفور الغريب، الذي لم تستطع تحديد هويته! ودفعها فضولها إلى فتح عينيها
والقفز بعصبية إلى الشرفة، حيث يتاح لها مشاهدة عصفورها عن قرب.
على حافة الشرفة، اتكأت روند تراقب المغني الصغير وقد هيج
في داخلها انفعالات ثورية متناقضة عجزت عن تسميتها أو التعرف بمكامنها وأسرارها،
لكنها حتما، أحدثت في نفسها انقلابا غريبا، أكثر ما أدهشها، من أول لحظة، أن
المغرد المجتهد لم يكن كنارا، ولا بلبلا، حتى ولا حسوناً! بل كان عصفورا عاديا،
لكن تغريده كان مشحونا بالحرارة والحماس، كل أعضاء جسمه الصغير كانت تهتز وترتعش
حماسة واندفاعا.
كان حتما يعطي من نفسه أقصى ما يستطيع، يعطي وهو سعيد،
وينتفض جناحاه بنشوة الفرح بالعطاء الأفضل الذي وحده لائق وجيد ومرض لعنفوانه ! يا
للمغرد الساحر، كيف يتماوج الغناء من حنجرته! حتى مخالبه الدقيقة المتشبثة بالغصن،
بدت في حالة تحفز إلى الأمام! أي انسجام هائل هذا بين غنائه وحركات جسمه.
نسيت روند نفسها، وهي تراقب بشغف، وانبهار لا مزيد عليه،
جارها على الشجرة، وهو يحاول بأقصى جهده، أن يطرب العالم كله، بأفضل ما يستطيع من
غناء! هنا، وضعت إصبعها على موطن ضعفها، وتساءلت بجرأة: هل حاول مرة أن أعزف على
البيانو، على نحو ما يغرد هذا العصفور الضعيف الماثل أمام عين؟ وهل كان للفشل أن
يتسرب الى لو جددت كل طاقاتي الفاعلة لتنمية موهبتي الفنية؟ واعترفت روند لضميرها
الذي استيقظ، لأول مرة ليحاسبها اعترفت بأنها كانت تعزف كواجب لا كمتعة، إرضاء
لأبويها، لا إرضاء لكبريائها، أو إنماء لموهبة أصيلة كامنة في أعماقها،
عجيب أمر صداعها كيف زال، ومعه القرع على صدغيها! مشكلتها
إذن كانت نفسية كانت عقدة وحلت! وبنشاط رفعت سماعة الهاتف وكلمت أستاذها، ولا نعلم
على أي ترتيب اتفقا لكن الذي نعلمه، أن أهلها والجيران، دهشوا لدى سماع عزفها عصر
ذلك اليوم، لقد دبت الحيوية والحرارة في لمسات أناملها الرشيقة الطبيعة، وتعالت
الألحان الشجية وغمرت البيت والحديقة والحي المجاور، وهرع أفراد أسرتها من غرفهم
يستطلعون الخبر اليقين، وقد علا الاستغراب وجوههم، كأنهم لا يصدقون آذانهم
المفتونة بروعة ما يسمعون، وحدها روند، أدركت السر الذي حيرهم، من كان يصدق أنها
كانت تقلد العصفور؟! وأنها تعلمت منه درسا ثمينا، تعلمت أن تعطي في عزفها، وفي كل
عمل تقوم به أن تعطى ” كل طاقاتها وأقصى ما تستطيع.
إقرأ أيضا: